فضاء حر

فتاة سمراء في حملة أرعبت المجرمين

يمنات

في الأسابيع الأخيرة من حملة "الجدران تتذكر وجوههم"، كنت أعود إلى البيت وفي بالي أن أكتب شيئاً عن إحدى عضوات هذه الحملة التي أرعبت المجرمين، لكني لم أفعل، وظللت أؤجل الأمر من خميس إلى آخر، حتى انتهت الحملة، وفقدت أنا حماستي للكتابة.

لكن في الفعالية الختامية لحملة الجدران، والتي أقيمت صباح الخميس، قررت أن أكتب شيئاً عن تلك الفتاة السمراء، رغم أني لم أعد في نفس الحماس الذي كان أيام ما كانت الحملة تطارد المجرمين في الشوارع، وكانت تلك الفتاة العشرينية تعمل بصمت وتنكر ذاتها.
كنت، كلما سنحت لي الفرصة للمشاركة في حملة "الجدران تتذكر وجوههم"، أجد أمامي نفس الفتاة السمراء حاضرة هناك تلملم المخفيين قسراً، وعرفتُ فيما بعد أن اسمها إرسال بشر العبسي، وهي خريجة قسم آثار من كلية الآداب في جامعة صنعاء.
اختارت إرسال بشر لنفسها دورا شاقا في الحملة؛ حيث كانت تقوم بجمع كل الإكليشات التابعة للمخفيين قسراً وأسمائهم، بعد أن يتم طبعها على الجدار من قبل رفاقها، أعضاء الحملة، ثم تقوم بنشرها على الرصيف وتظل ترقبها حتى تجف من "البخاخ"، لتقوم بعد ذلك بتجميعها ورصها فوق بعض، استعداداً لمعركة نضالية أخرى قادمة ستقام في خميس آخر، على جدار آخر في العاصمة صنعاء.
وهكذا استمرت إرسال، طوال فترة مشاركتها في حملة الجدران، تعمل دون كلل أو ملل في لملمة أبطالها المخفيين قسراً، وتقوم بتجهيزهم لمعركة جديدة سوف تخوضها مع رفاقها الرائعين في الحملة، بشراسة لا تقبل المهادنة ولا الجبن ولا الانكسار.
ومع استمرار الأيام والنضال، نشأت بين إرسال بشر والمخفيين قسراً علاقة كانت أقرب إلى علاقة أم صالحة بأطفالها؛ حيث كانت تقوم بحمايتهم وحراستهم ومراقبتهم، وتمنع أي شخص من الاقتراب منهم، حتى أنني شاهدتها أكثر من مرة وهي تصغي إليهم، وتحدثهم وتهدئ من روعهم بابتسامتها السمراء الأنيقة.
وإذا كانت حملة "الجدران تتذكر وجوههم" هي أنبل وأعظم عمل نضالي حقوقي مدني حصل في تاريخ اليمن؛ فإن الرائعة إرسال بشر العبسي هي أصدق وأنبل ناشطة مدافعة عن حقوق الإنسان وجدت في اليمن حتى الآن، وأنا أرفع لها قبعتي إكباراً وإجلالاً.
صحيح أنني لم أكن من المشاركين في هذه الحملة بشكل دائم، وعدد الأيام التي شاركت فيها تتعدى أصابع الكف الواحدة بقليل؛ لكني كنت أنام في يوم واحد من كل أسبوع مع عدد من المخفيين قسراً في نفس الغرفة، وأنام أيضاً معظم بقية أيام الأسبوع مع "المشارط" والقصاصات الورقية التي كان يخلفها الرفيق صامد السامعي، من خلال عمله على قص وتجهيز إكليشات صور وأسماء المخفيين، وهذا لم يكن بالأمر الهين بالنسبة لي.
كنت أعود من الصحيفة إلى البيت في وقت متأخر من مساء كل يوم أربعاء، وأجد الرفيق صامد هناك غارقاً في النوم، بعد عمل شاق ظل يقضيه معظم الليل؛ فيما الغرفة التي أتشاطرها معه تكون في حالة استنفار قصوى، وتتأهب للخروج إلى الشارع في الصباح الذي سيطلع بعد ساعات قليلة، ومعها مخفيون قسراً جدد.
وهكذا استمر الحال طوال معظم أيام حملة الجدران، وغرفتي التي أتقاسمها مع صامد تمر في فوضى عارمة، ولم يكن لينقذنا من ذلك إلا ربيع أخي، ووسام، أخو صامد، اللذان يسكنان في الغرفة الثانية من نفس البيت، ويقومان بتنظيفها عوضا عنا، عندما ييأسان من أننا لن نفعل ذلك.
انتهت حملة "الجدران تتذكر وجوههم"، لكن الفوضى العارمة في الغرفة لم تنته، وظلت كما غادرها آخر مخفي قسراً، صباح آخر خميس للحملة، إلى سور الجامعة القديمة، على عكس غرفة وسام وربيع الأنيقة والمرتبة، ويبدو أني وصامد اعتدنا على ذلك العبث وأصبحنا لا نستطيع النوم بدونه.
وأذكر أن أحد الرفاق قدم من تعز ذات يوم، ونزل ضيفاً علينا، وعندما شاهد غرفتنا مليئة بالمتاريس والفوضى، قال لي: "يا رفيق هاني، المفروض حملة شارك كانت تجيء تنظف هنا وليس في الشوارع".

كلمة أخيرة:
الجدران لا تتذكر أحدا؛ لكن الفنان الشاب مراد سبيع خلق لها ذاكرة بعمله الإنساني النبيل هذا، وبهذا يستحق منا كل الاحترام هو وفريق حملته "الجدران تتذكر وجوههم"، الذين عملوا بصدق وإخلاص، وهم: الفنانة التشكيلية هيفاء سبيع، وصامد السامعي، وإرسال العبسي، وحكيم البكاري، وكمال الموفق، وربيع الجنيد.

زر الذهاب إلى الأعلى